رمضان وشيطانه !
كون منهمكًا بعملك أو لهوك مستغرقًا فيه لا تكاد تشعر بنفسك، فيصل عقرب الساعة إلى الموضوع الذي كنت عقدت عليه جرسها فينبهك إلى حلول الوقت الذي أنت في انتظاره، وحينئذ تخرج مما كنت فيه، وترى كأنك كنت نائمًا فاستيقظت. ذلك مثل شهر رمضان مع غيره من أشهر السنة: يكون الناس قبله كالقافلة التي تسري في جوف الليل لا تعرف من الوجود شيئًا غير أنها تسري، فيطل عليها القمر من وراء الجبل فيبدو لها كل أمر من أمورها كأنما هو جديد. فأهلاً بشهر رمضان نجدد به أنفسنا، وننتبه لها، بعد أن كنا في غفلة عنها. الناس في سكرة: فمنهم من يرجع إلى نفسه فيصحو في رمضان، وما يزال الصحو يتسع ويشيع في عوالم نفسه حتى يصير من أهل البصيرة. ومنهم من يزيده رمضان ارتكاسًا في سكرته، فلا يخرج منها إلا يوم يجتاز القنطرة التي يجتازها . كل ابن أنثى بين حياتين: إحداهما سريعة كالخيال، وأخرى دائمة دوام الأبد. رمضان شهر يذكرك بنفسك، فتخلو بها تحاسبها وتحاسبك، وكم خرج الموفقون من هذا الحساب إلى حياة جديدة يتعجبون كيف كانوا في غفلة عنها، وكيف كانت أوهام المجتمع تحجب عنهم جمالها. في رمضان نغير حياتنا، وهذا التغيير ضروري لتجديد الحياة، وتجديد الحياة ضروري لمن يريد أن يلتفت إلى الوراء ينظر في أي طريق كان سائرًا، ثم يرسل نظره إلى الأمام يكتشف المصير. في رمضان نحاول أن نقهر النفس لنعودها الطاعة العسكرية في سبيل الواجب، ومن لا يستطيع أن يحكم نفسه فيصرفها على مقتضى المصالح فاته خير كثير. في مثل هذا الشهر من كل عام نستقبل رمضان، فيجب علينا قبل كل شيء أن نعرف رمضان الحقيقي الذي نحن مستقبلوه، والحذر الحذر أن يخدعنا شيطان رمضان فيوهمنا أنه هو، ويصحبنا الشهر بطوله ثم يذهب بنا في داهية. هنالك رمضان، وشيطان رمضان، ويجب أن نكون من الفطنة بحيث لا يضحك علينا شيطان رمضان فيوهمنا أنه رمضان. رمضان يعلم المسلم الصبر والبشاشة والحلم والرضا، وشيطان رمضان يورث صاحبه ضيق الصدر والكآبة والغضب. فإذا جاء رمضان وكنت ممن يدخن فامتنعت عن التدخين، فإن رمضان يمرنك على الصبر عنه حتى يكون الصبر عنه سجية لك قد تبلغ بك إلى ترك الدخان ألبتة بما تسلحت به من قوة العزم وفضيلة الصبر، وأما شيطان رمضان فيعظم لك أمر الدخان، ويوهمك أنك متألم للامتناع عنه، وينصح لك بأن تخفف من ألمك بالغضب على من هم دونك من خدمك وأقاربك وذويك، فيفسد عليك شيطان رمضان مزية من مزايا رمضان، وهي اعتيار الصبر واتخاذه سجية لك وسلاحًا تتقي به كثيرًا من شرور الحياة. رمضان يمنعك من الطعام بياض نهارك لحكمة ستدركها إذا راقبت أثر ذلك في نفسك، وشيطان رمضان يغريك بحشد صنوف الطعام في جوفك وكَرِشك حتى تفسد في ساعة الغروب ما أصلحته عامة نهارك، فتغدوا محرومًا صفاء النفس الذي هو الغرض الأول من صوم رمضان، وتخسر علاج الحمية الذي هو نفع عارض من منافع رمضان الكثيرة. ورمضان يحبب إليك الاقتراب من ربك في لياليه، والقرب إلى الله منزلة أيسر مزاياها أنها تحجب لذتها عن غير أهلها، وأما شيطان رمضان فيسوق صاحبه إلى المقهى أو السينما أو إلى سهرات أخرى تهرب منها الملائكة وتشهدها الشياطين، وأكثر الصائمين يتفننون في إعداد هذه السهرات في بيوتهم وبيوت أصدقائهم أو في بيوت الشياطين يحسبون أنها جمال رمضان، وإنما هي جمال شيطان رمضان. وصائم رمضان تتغلب فيه على ألم الجوع لذة الصبر، وبهجة الرفق والحلم، أما صاحب شيطان رمضان فيجوع نهاره ويفسد على نفسه ثواب هذا الجوع بما يصحبه من كآبة وغضب وبذاءة لسان، ثم يفطر إفطار من لا يعرف حكمة الصوم، ثم يسهر سهر من لا يريد أن يعلم أن نهار رمضان لا يلائمه إلا ليل من جنسه. إن المسلم الذي يعرف مرامي الإسلام، ويفهم حكمة الصوم يخرج في رمضان من ضوضاء الحياة المادية التي أحيط بها المتزاحمون على توافه الدنيا وزبالتها من أهل القافلة التي تسري في الظلام، فيكون له من رمضان جرس ينبه إلى التخلق بأخلاق رمضان في ليله ونهاره، وهذا سبيل تصفو فيه النفس وتتجدد، وتسمو بصاحبها إلى منزلة من منازل الكمال. جعلني الله وإياك يا أخي من أهلها، وأحيانًا إلى أمثاله إن كان الخير في حياتنا إلى أمثاله. الأستاذ محب الدين الخطيب رحمه الله المصدر : مجلة "الأزهر": المجلد 24، الجزء 9، رمضان سنة 1372، ص 1095-1096